القائمة الرئيسية
جديد الموقع
القائمة البريدية
تابعنا على تويتر
WhatsApp تواصل معنا
96599429239+
البحث
الزيارات
عدد الزوار
عرض المادة
وقفات مع حادثة الإساءة إلى الرحمة المهداة
وقفات مع حادثة الإساءة إلى الرحمة المهداة
الحمد لله الذي رفع ذِكْرَ خاتم النبيين والمرسلين، والصلاة والسلام على سيِّد الأولين والآخرين، وعلى آله وصحبه الذين فاقوا غيرهم في توقير المبعوث رحمةً للعالمين.
وبعد: فلا يخفى على كل متابع للأحداث والوقائع في هذه الأيام ما وقع في إحدى الدول الغربية (فرنسا) من محاولة الإساءة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالرسوم الكاريكاتيرية المعبرة عن الحقد الدفين تجاه الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثم الأدهى والأمَرّ اعتبار السلطات الفرنسية نشرَ تلك الرسوم الوقحة المسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم من حرية التعبير التي تتماشى مع المبادئ والقيم التي قامت عليها جمهورية فرنسا، وتأكيدًا لذلك فقد أُعيدَ نشر تلك الصور البذيئة برعاية الحكومة الفرنسية في الأماكن العامة، مع أن السلطات الفرنسية أغلقت بعض الصحف لقيامها برسوم مسيئة لبعض الشخصيات الفرنسية، وما هذه إلا ازدواجية في المعايير، وكيل بمكيالين، وبخس في الموازين.
وقد حصلت بسبب تلك الرسوم المسيئة لمقام النبي صلى الله عليه وسلم ردود أفعال كثيرة مختلفة من المسلمين تعبيرًا عن غضبهم واستيائهم، وهذا أمر متوقع لا يستغرب منه.
ولا يمكن فهم الرسوم المسيئةلرسول الله صلى الله عليه وسلم خارج سياق استهداف المسلمين، فهي إرهاب وتطرف، وإذكاء لنار العنصرية، واستفزاز لمشاعر وعواطف أكثر من مليار ونصف من المسلمين الذين يتبعون هذا النبي العظيم الذي بُعِث رحمة للعالمين، فالإساءة لمقدسات الإسلام لا تنبع أبدًا من معين الإيمان بحرية التعبير عن الرأي كما يُدَّعى، وليست في شيء منها، بل هي انعكاس لعدم الاعتراف بحق المسلمين في التمسك بالإسلام دينًا يدينون الله به.
والإساءة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إساءة إلى الإمة الإسلامية برمتها، بل هي إساءة إلى جميع الرسل عليهم السلام، بل هي إساءة إلى الله عز وجل؛ لأن قدْر الرسول من قدْر المرسِل.
إن المسلم الذي درس السيرة العطرة، وقرأ كتب الشمائل التي أفاضت في وصف النبي صلى الله عليه وسلم ليعلم يقينًا أنَّ نبي الرحمة أجملُ الناس خَلْقًا وأحسنُهم خُلقًا، وأنَّ هذه الرسوم المسيئة لا تمت بصلة إلى شخصية الرسول الكريم، لكنَّ بُغضَ تلك الرسوم وعداوةَ مَنْ يقوم بنشرها مطلب إيماني واجب على كل مسلم رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولًا.
ولعظم وقع تلك الجريرة على الأمة وتأثر المسلمين بها، وجب على العلماء وطلبةِ العلم بيانُ موقف الشرع من تلك الرسوم وما يجب عليهم نحوها، حتى تكون ردود أفعالهم مضبوطة بالشرع الحنيف، لا بالعاطفة التي تجرُّ إلى ما لا يحمد عقباه، وذلك في الوقفات الآتية:
الوقفة الأولى: مكانة النبي صلى الله عليه وسلم في الإسلام:
مما يجب على كل مسلم: معرفة مكانة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو رسول الهدى والسلام، أرسله الله رحمة للعالمين، وأخرج به مَن شاء مِن ظلمات الشرك إلى نور التوحيد، ومن الجَوْر إلى العدل، وَرَفَع له ذِكره، وَقَرَن اسمه باسمه؛ يُرفعان للنداء بالصلاة في اليوم خمس مرات.
ويكفي لبيان مكانة النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يصح إسلام أحد إلا بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وأنه لا يوجد طريق يوصل إلى الله سبحانه وتعالى إلا عن طريقه صلى الله عليه وسلم، ولا يسع أحدًا الخروج عن شريعته كائنًا مَن كان، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «...لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ مَا حَلَّ لَهُ إِلا أَنْ يَتَّبِعَنِي»([1]).
ومما يدل على مكانة النبي صلى الله عليه وسلم أن الله سبحانه تعالى أوجب محبته، فلا يؤمن أحد حتى يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أحبّ إليه مِن نفسه ووالده وولده والناس أجمعين؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فوالذي نفسي بيدهِ! لا يؤمنُ أحدُكم حتَّى أكونَ أحبَّ إليه مِن والدهِ وولدهِ»([2]).
الوقفة الثانية: الإساءة إلى الرسل عليهم الصلاة والسلام عبر التاريخ:
بدأت الإساءة إلى أنبياء اللهالذين جعلهم الله أفضل البشر منذ أن أرسل الله تعالى أول رسول للدعوة إلى عبادة الله تعالى واجتناب الطاغوت، وقد تَفَنَّن الكفار في الاستهزاء بهم والسخرية منهم، بوصفهم تارة بأنهم مجانين، وأخرى بأنهم سحرة، وغير ذلك من أنواع السخرية والإساءة، ومما أنزل الله على نبيه الكريم تسليةً له صلى الله عليه وسلم قوله تعالى:﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾[الأنعام:10].
والناظر في سيرة الرسول محمدٍّ صلى الله عليه وسلم يجد أنَّ الإساءة إليه، وسخرية الكفار والمنافقين منه، كانت موجودة في زمانه الذي يعتبر أفضل الأزمنة على الإطلاق، قال تعالى:﴿وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ ۖ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَٰذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ﴾[ص:4]، وقال تعالى: ﴿فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ * أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ﴾[الطور:29-30].
وما قصة استهزاء المنافقين به وبأصحابه في غزوة تبوك بخافٍ علينا، حيث نعتوه هو وأصحابه رضوان الله عليهم بصفات قبيحة، قال تعالى:﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ۚ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ۚ إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ﴾[التوبة: 65-66].
ذكر المفسرون أنَّ سبب نزول هذه الآيات أنَّ منافقًا قال في مجلس في غزوة تبوك: "ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونًا ولا أكذب ألسنًا، ولا أجبن عند اللقاء"([3]). يعني النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته البررة رضوان الله عليهم أجمعين.
وقد اشتهر في كتب الحديث والسيرة قصة هجاء كعب بن الأشرف اليهودي للنبي صلى الله عليه وسلم، واشتداد ذلك عليه، حتى قال فيما جاء عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأَشْرف؛ فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَه؟...»([4]).
إذا تقرر ما سبق تَبَيَّن للمسلم أنَّ هذه الإساءة المتكررة للجناب النبوي الشريف في الغرب في الوقت الحالي ليس أمرًا غريبًا، وأنَّ ذلك داخل في المكائد التي يستعملها حزب الشيطان للصد عن سبيل الله، كما يُعَدّ مِن الصراع بين الحق والباطل الذي لن يتوقف إلى أنْ يرث الله الأرض ومَنْ عليها.
الوقفة الثالثة: حكم الاستهزاء بالنبي صلى الله عليه وسلم والإساءة إليه:
تَنَقُّصُ الأنبياءِ والإزراءُ والسخرية منهم والإساءة إليهم بالفعل أو بالقول -أو بهما- مِن أعظمِ الجرائم في الإسلام، بل هو مِن نواقض الإيمان التي توجِب الكفر، ولا يخلو فاعل ذلك من حالين:
أولًا: أنْ يكون مُسلِمًا، فلا خلافبين العلماء أنَّ المسلم يرتد بذلك ويكفر، وعقوبته القتل، قال إسحاق بن راهويه رحمه الله: "أجمع المسلمون على أنَّ مَن سَبَّ الله، أو سَبَّ رسولَه صلى الله عليه وسلم، أو دفع شيئًا مما أنزل الله عزَّ وجلَّ، أو قتل نبيًّا مِن أنبياء الله، أَنَّه كافر بذلك وإِنْ كان مُقِرًّا بكلِّ ما أنزل الله"([5])، وقال الخطابي رحمه الله تعالى: "لا أعلم أحدًا مِن المسلمين اختلف في وجوب قتله إذا كان مُسلِمًا"([6])، وقال محمد بن سحنون المالكي رحمه الله: "أجمع العلماء على أنَّ شاتم النبي صلى الله عليه وسلم والمتنقِّص له كافر، والوعيد جارٍ عليه بعذاب الله تعالى له، ومَن شك في كفره وعذابه كَفَر"([7]).
ثانيًا: أن يكون ذِمِّيًّا، فقد ذهب عامة أهل العلم إلى أنَّ عهده ينتقض وأنَّ عقوبته القتل، استدلالًا بقصة كعب بن الأشرف اليهودي لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله حين هجاه. قال القاضي عياض رحمه الله: "فأمَّا الذمي إذا صرَّح بسبه -النبي صلى الله عليه وسلم- أو عرَّض، أو استخفَّ بقدره، أو وصفه بغير الوجه الذي كفر به، فلا خلاف عندنا في قتله إنْ لم يسلم؛ لأنَّا لم نعطه الذمة أو العهد على هذا، وهو قول عامة الفقهاء، إلا أبا حنيفة والثوري وأتباعهما مِن أهل الكوفة، فإنهم قالوا: لا يُقتل، ما هو عليه مِن الشرك أعظم، ولكن يؤدَّب ويعزَّر"([8]).
ويجدر التنبيه إلى أنَّ تنفيذ هذه العقوبات خاص بوليّ الأمر، وليس لعموم الناس مما تكون مفسدته أعظم.
الوقفة الرابعة: إنَّ هذه الإساءة التي تتكرر بين الفينة والأخرى للجناب النبوي أظهرت حقيقة عداوة الكفار للدين الإسلامي ونبيه المجتبى صلوات الله وسلامه عليه، وما تنطوي عليه قلوب أعداء الإسلام مِن الحقد والكره للمسلمين، وإنْ تظاهروا في كثير مِن الأحيان بالمودة والمسالمة، ﴿وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ۚ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ﴾[آل عمران:118].
وقال تعالى:﴿وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ۗ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ ۗ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ۙ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾[البقرة:120].
ولذلك يسعون في إيذاء المسلمين ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، فيحاربون الإسلام باسم حرية التعبير تارة، وباسم محاربة التطرف والإرهاب تارة أخرى، وهم الإرهابيون المتطرفون في الحقيقة، وما فَتِئُوا يُخططون للقضاءِ على الإسلام، لأنَّهُم يرونه الخطر الأكبر الذي يهددهم، ويهدد مصالحهم، قال تعالى: ﴿إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا﴾[النساء:101].
الوقفة الخامسة: تهافت وزيف دعاوى حقوق الإنسان:
لقد أظهرت هذه الرسوم المسيئة حقائق كانت خافية على جمّ غفير من الناس، فكم سمعنا ولم نزل نسمع الدول الغربية تدّعي رعاية حقوق الإنسان، وأنها ضد مَن ينتهكها، لكن هذه الرسوم المسيئة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أثبتت أنَّ مبدأ حقوق الإنسان الذي يتغنون به لا يعدو أنْ يكون أمرًا تابعًا لهواهم، وكشفتزيف دعواهم احترام جميع المعتقدات والمقدّسات؛ إذ لو كانوا صادقين في ذلك لسارعوا إلى إنكار تلك الرسوم التي تؤذي ما يزيد على مليار ونصف مليار مسلمٍ.
لقد تكشَّف للعالم تهافت تلك الدعاوى المجردة عن المصداقية، ولاسيما عندما تُنتهك وتُغتصب حقوق المسلمين، فعلى مدار عقود طويلة وعددٌ كبير من المسلمين يُضطهدون ويذوقون أقسى وأقصى صنوف التعذيب والتنكيل والتمثيل، يُقتلون قتلًا ممنهجًا، وتُهدر حقوقهم في الحياة، ويعاملونهم كالبهائم، كل ذلك على مرأى ومسمع العالم الغربي أجمع، بهيئاته الأممية، ومنظماته الإنسانية، ولا ينبِسون ببنت شفة، ولا يحركون ساكنًا، وإنما يقفون مكتوفي الأيدي خُرْسًا صامتين صمت القبور، إنها ازدواجية المعايير، وسياسة الكيل بمكيالين.
الوقفة السادسة: رغم الحزن الذي يشعر به كل مسلم جرَّاء هذه الرسوم المسيئة إلى سيد البشر صلى الله عليه وسلم، فإنها لا تنقص من قدره صلى الله عليه وسلم ولا تضره، كيف تضره!!؟ ولم يزل الله عز وجل يدافع عن الذين آمنوا عمومًا، وعن الرسل خصوصًا، فلهذا رفع الله ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، فقال تعالى: ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾[الشرح:4]، وتكفَّل الله بالدفاع عنه ونصرته، فقال سبحانه: ﴿إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ﴾[التوبة:40]، وأمَّنه وعَصَمَه مِن كل سوء أو أذى، فقال تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾[المائدة:67]، وكفاه المستهزئين، فقال تعالى: ﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ﴾[الحجر:95]، وتوعد من يبغضه ويحاربه، فقال تعالى: ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾[الشرح:3]، ولعن مَن آذاه في الدنيا والآخرة، فقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا﴾[الأحزاب:57].
الوقفة السابعة: لا شك أنَّ في هذا التطاول على النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم شرًّا عظيمًا، ولذا رتب الشرع عليه عقوبة القتل، لكن مع ذلك فإنَّ لله في الأحداث والوقائع حِكمًا وأسرارًا لا يستطيع كل أحد معرفتها أو إدراكها، والمنح كثيرًا ما تكون بين طيَّات المحن.
ولعل مما يستأنس به في هذه الرسوم المسيئة حادثة الإفك التي تأذى بها النبي صلى الله عليه وسلم حق التأذي، مما جعل المؤمنين يظنون أنَّ ذلك شر محض فأنزل الله مِن فوق سبع سموات ما يدل على أن فيها خيرا، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ ۚ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم ۖ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾[النور:11].
ومن مميزات دين الإسلام أنه يزداد قوة وصلابة بعد كل محنة تصيب المسلمين عبر التاريخ، وتتحطم المكائد على صخرته الصمَّاء، ويبقي كالطود الشامخ، كما قيل: "إنّ الإسلام إذا حُورب اشتدّ، وإذا تُرك امتدّ"، فمنذ أنْ بعث النبي صلى الله عليه وسلم لم تمر حِقبة مِن الزمان دون أنْ يشيطن الإسلام، وتشوه صورته، وتُحاك له الفتن والمؤامرات، وفي كل مرة يكون عوده أصلب، وتأثيره أقوى وأتباعه أكثر.
ومِن الفوائد التي تستفاد مِن حادثة الإساءة إلى النبي صلى الله عليه وسلم إقبال الكفار إلى البحث عن سيرته مما يدفعهم إلى الدخول في الإسلام، لأنَّ المنصِف إذا اطلع على سيرته صلى الله عليه وسلم فلا يكون أمامه إلا خياران: إما أنْ يُسلم إن كان ذلك مقدرًا له في سابق علم الله، أو يُكنُّ له الاحترام وإنْ لم يدخل في دينه؛ لاشتمال سيرته على الجوانب المشرقة التي تفيد الإنسانية جمعاء.
الوقفة الثامنة: وجوب نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم:
مِن أعظم الواجبات على المسلمين تجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم محبته وتعظيمه وتعزيره وتوقيره كما قال تعالى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِّتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾[الفتح:8-9]، قال ابن كثير رحمه الله: "﴿لِّتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ﴾ قال ابن عباس وغير واحد: يعظموه، ﴿وَتُوَقِّرُوهُ﴾ من التوقير وهو الاحترام والإجلال والإعظام"([9]).
ومن أعظم مظاهر محبة النبيصلى الله عليه وسلم: نصرته والدفاع عنه، فإذا تطاول عليه متطاول بالسب والطعن والاستهزاء فعلى المسلمين أنْ يهبّوا للدفاع عنه ونصرته والذب عنه، فما مِن خيرٍ يصيب المسلمين إلا وللنبي صلى الله عليه وسلم مِنّة عليهم به ﴿إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ﴾[التوبة:40].
ونصرة النبي صلى الله عليه وسلم والدفاع عنه داخلة في تعظيمه وتوقيره، فكل وسيلة شرعية تؤدي إلى تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره والكف عن الإساءة إليه فهي مطلوبة؛ لأنَّ للوسائل أحكامَ المقاصد كما قرره أهل العلم، قال العلامة العز بن عبد السلام: "للوسائل أحكام المقاصد، فالوسيلة إلى أفضل المقاصد هي أفضل الوسائل، والوسيلة إلى أرذل المقاصد هي أرذل الوسائل"([10]).
الوقفة التاسعة: كيفية نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم:
إنَّ المكانة التي يحتلها النبي صلى الله عليه وسلم توجب على كل مسلم الدفاع عنه والذَّب عن عِرضه، كل حسب قدرته، ومِن الطرق التي يمكن أنْ ننصره بها ما يأتي:
1- القيام بحقوق النبي صلى الله عليه وسلم، والتزام أوامره واجتناب نواهيه، وأنْ لا يُعبد الله إلا بما شرع، واجتناب ما نهى عنه وزجر، قال تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾[الحشر:7].
والنصرة الجادة للرسول صلى الله عليه وسلم تبدأ باتباع سنته والعمل بها ظاهرًا وباطنًا، وهو الأصل الأصيل في نصرته، وما عداه تبع له.
2- الغضب للنبي صلى الله عليه وسلم إذا انتهكت حرمته، وإنكار الإساءة إليه بأي صورة مِن صور الإساءة، كل حسب طاقته ومسؤوليته؛ لأنَّ الغضب على انتهاك حرمات الله صورة مِن صور الإنكار عليها، وإنكارها والغضب عليها نوع مِن الذب والدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغضب لنفسه، ولكن إذا انتهكت حرمات الله لم يقم لغضبه شيء، فعن عائشة رضي اللّه عنها قالت: "واللّه ما انتقم لنفسه في شيء يؤتى إليه قطّ حتّى تنتهك حرمات اللّه، فينتقم للّه"([11])، وقال الشافعيرحمه الله: "مَن استغضب ولم يغضب فهو حمار"([12]).
3- التعريف بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم بين يدي الكفار، ورد الافتراءات عليه، وكشف الشبهات التي تثار حوله، بأساليب حكيمة، مدعومة بالنقل والعقل.
4- إبراز محاسن الإسلام وأخلاقه ويسره وسماحته، وكونه دينًا مناسبًا للفطرة التي فطر الله الناس عليها؛ فإنَّ ذلك يسبب دخول الناس في الإسلام بإذن الله، ويميط اللثام عن الشبهات التي تجعل الغرب يكره الإسلام ونبيه عليه الصلاة والسلام.
5- اقتناص الفرصة بدعوة الشعوب الغربية إلى الإسلام، ولاسيما عوامهم الذين غُيِّبَت عنهم صورة الإسلام المشرقة.
6- ترجمة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، ومحاسن الإسلام، وكتب الدعوة الإسلامية، إلى مختلف اللغات العالمية؛ ليصل إلى أكبر قدر ممكن.
7- نشر سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ومحاسن الإسلام وكتب الدعوة الإسلامية وترجمتها في مواقع إلكترونية، ومواقع التواصل الاجتماعي، والمكتبات المتخصصة.
8- إنشاء مراكز متخصصة في البحوث والدراسات في السيرة النبوية وفضائل الإسلام والدعوة الإسلامية، وتأسيس مواقع إلكترونية ومحطات إذاعية وقنوات فضائية للدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم، والذب عن جنابه.
9- نشر ما ذكره المنصفون مِن غير المسلمين في النبي صلى الله عليه وسلم وفي الإسلام، إذ هو أدعى لقبول أقوامهم له، وقد أقرَّ بعظمة هذا النبي الكريم كبار المفكرين في الغرب([13]).
10- الدعاء والتضرع إلى الله تعالى، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: استقبل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة، "فدعا على نفر مِن قريش: على شيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأبي جهل بن هشام، فأشهد بالله، لقد رأيتهم صرعى، قد غيرتهم الشمس، وكان يومًا حارًّا"([14]).
11- المقاطعة الاقتصادية، وهي وسيلة لردع المعتدين، وإجبار تلك الدول لتسن التشريعات التي تعاقب كل مَن يسيء إلى دين الإسلام([15])، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دعا قريشًا كذبوه واستعصوا عليه، فقال: «اللهم أعني عليهم بسبعٍ كسبع يوسف!» فأصابتهم سَنَةٌ حصّت كل شيء حتى كانوا يأكلون الميتة، وكان يقوم أحدهم، فكان يرى بينه وبين السماء مثل الدخان من الجَهْد والجوع، فأتاه أبو سفيان فقال: أيْ محمد إنَّ قومك هلكوا؛ فادع الله أنْ يكشف عنهم([16])، وكان ثمامة بن أثال رضي الله عنه قال لأهل مكة بعدما أسلم كما في الصحيحين: "والله، لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة، حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم"، وما قام به رضي الله عنه نوع من المقاطعة الاقتصادية، وقد أقره النبي صلى الله عليه وسلم على تلك المقاطعة الاقتصادية واستمرت تلك المقاطعة إلى أن طلب الرسول صلى الله عليه وسلم مِن ثمامة بن أثال وقفها.
الوقفة العاشرة: أمور تفعل ليست من الشرع، ولا من نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم،منها:
1- إعادة نشر الرسوم المسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم لا تجوز شرعًا، وإن كان القصد منها إظهار مدى عداوة فاعل ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لما فيه من التعاون على الإثم، قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾[المائدة:2]؛ ولأنه نشر لمنكر مجمع على تحريمه. قال القاضي عياض: "وقد قال أبو عبيد القاسم بن سلام فيمن حفظ شطر بيت مما هجى به النبي صلى الله عليه وسلم فهو كفر، وقد ذكر بعض مَن ألَّف في الإجماع إجماع المسلمين على تحريم رواية ما هُجي به النبي صلى الله عليه وسلم، وكتابته، وقراءته، وتركه متى وجد دون محو، ورحم الله أسلافنا المتقين المتحرزين لدينهم فقد أسقطوا من أحاديث المغازي والسير ما كان هذا سبيله وتركوا روايته إلا أشياء ذكروها يسيرة وغير مستبشعة.."([17]).
2- القيام بالمظاهرات وزعزعة الأمن، والاعتداء على مَن ليست له يد في هذه الجريرة بحجة أنه من مواطني تلك الدولة التي نُشرت فيها الرسوم، كموظفي السفارات في البلدان الإسلامية، فإن ذلك محرم؛ لأنَّ الشرع لا يؤاخذ الإنسان بفعل غيره، قال تعالى: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ﴾[فاطر:18]، إضافة إلى ذلك فإن لهؤلاء عهدًا لا يجوز نقضه، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَد مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا»([18]).
وصلى الله وسلم على محمد الأمين، وعلى آله الطيبين، وصحابته الغر الميامين.
([1]) أخرجه أحمد في المسند (22/468)، حديث رقم (14631). وحسنه الألباني في الإرواء (3/275).
([2]) أخرجه البخاري في صحيحه حديث رقم (14)، ومسلم في صحيحه حديث رقم (44).
([3]) تفسير الطبري (14/333).
([4]) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي: باب قتل كعب بن الأشرف، حديث رقم (4037).
([5]) الاستذكار (2/150).
([6]) معالم السنن (3/296).
([7]) لوامع الدرر (13/372).
([8]) الشفا (2/565).
([9]) تفسير ابن كثير (7/329).
([10]) قواعد الأحكام (1/46).
([11]) أخرجه البخاري في صحيحه، حديث رقم (6288).
([12]) سير أعلام النبلاء (10/43).
([13]) منهم: الشاعر الفرنسي لامارتين الذي قال في حقه صلى الله عليه وسلم: "أعظم حدث في حياتي هو أنني درست حياة رسول الله محمد دراسة وافية، وأي رجل أدرَك من العظمة الإنسانية مثلما أدرك محمد، وأي إنسان بلغ من مراتب الكمال مثل ما بلغ، لقد هدم الرسول المعتقدات الباطلة التي تتخذ واسطة بين الخالق والمخلوق". ومنهم الشاعر الألماني غوته الذي قال في حقه صلى الله عليه سلم: "بحثت في التاريخ عن مثَلٍ أعلى لهذا الإنسان، فوجدته في النبي العربي محمد"، وغير ذلك من أقوال عقلاء الغرب الذين لهم مكانة مرموقة في مجتمعاتهم، مما يدل على أنه لا يسيء إلى النبي صلى الله من غير المؤمنين برسالته عليه الصلاة والسلام إلا الأنذال السفهاء. انظر: الرسول صلى الله عليه وسلم في عيون غربية منصفة (ص:174-175).
([14]) متفق عليه.
([15]) والأصل أن الذي يدعو للمقاطعة ولي الأمر، وبهذا تكون المقاطعة أقوى، فإن لم يدع لها ولي الأمر فلا إشكال في أن يقاطع شخص بنفسه منتجات الدولة الحاقدة على الإسلام بدون دعوة الآخرين إليها، وأما دعوة الناس إلى المقاطعة بدون إذن ولي الأمر فقد اختلف فيها العلماء المعاصرون، واختار المحدث الشيخ محمد ناصر الدين الألباني والشيخ صالح بن محمد اللحيدان والشيخ عبدالمحسن بن حمد العباد وغيرهم مشروعية الدعوة إليها من غير إلزام أحد بها.
([16]) أخرجه البخاري في صحيحه، حديث رقم (4823).
([17]) الشفا في التعريف بحقوق المصطفى (2/247).
([18]) أخرجه البخاري في صحيحه حديث رقم (31166).
- تحميل
-
السبت PM 05:28
2022-06-18 - 1156