القائمة الرئيسية
جديد الموقع
القائمة البريدية
تابعنا على تويتر
WhatsApp تواصل معنا
96599429239+
البحث
الزيارات
3067
زوار اليوم الحالي 59
زيارات اليوم الحالي 1559
زوار الاسبوع الحالي 41245
زيارات الاسبوع الحالي 59
زوار الشهر الحالي 3067
زيارات الشهر الحالي 5516309
كل الزيارات عدد الزوار
انت الزائر رقم
: 434275
يتصفح الموقع حاليا
: 455
عرض المادة
الردّ على دار الإفتاء المصرية حول تجويز طلب المدد من المخلوق.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الحق المبين، تعالى عن المثيل والكفو والنظير، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخليله ومصطفاه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد فقد صدرت فتوى عن دار الإفتاء المصرية منشورة على معرّفها ، ونصّها ( لا مانع شرعا من طلب المسلمِ المددَ من الأنبياء والأولياء والصالحين، ولا فرق في ذلك بين كونهم أحياء أو منتقلين؛ لأنه محمول على السببية لا على التأثير، كما أن الأصل في الأفعال التي تصدر من المسلم حملها على الأوجه التي لا تتعارض مع أصل التوحيد، فالعبرة في التمسح بالأضرحة أو تقبيلها هي حيث يجد الزائر قلبه، ولا يجوز المبادرة برميه بالكفر أو الشرك).
وإني لأعجب كل العجب أن تصدر هذه الفتوى من جهة يفترض فيها أن تدعو الناس إلى الإقبال على الله، والالتجاء إليه، ودعائه دون واسطةٍ، لا أن تزيد الناس بعدًا عن الله، وتحرّضَهم على التعلق بالأوهام والخرافات، وتأخذَ بأيديهم إلى هتك حرمات الشرع، والوقوعِ في الذنب الأكبر، فأسأل الله جل وعلا أن يعيدهم إلى الحق، ويلهمهم الرشد، ويعيذهم من شرور أنفسهم، إنه سبحانه وتعالى سميع مجيب، على كل شيء قدير.
وأما هذه الفتوى فلا شك في بطلانها، وأنها دعوة جاهلية، وضلالة عمياء، وردّ على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم.
وسأذكر بطلان هذه الفتوى في الآتي:
أولا ـ طلب المدد من المخلوق الميت أو الحي هو دعاء الشخص بقوله: مدد يا فلان لحي أو ميت، وقد يكون الحي حاضرا أو غائبا، وقد يكون الشيء المطلوب داخلا في قدرة المستمَدّ منه وقد لا يكون، والفتوى أطلقت جواز طلب المدد، ومعنى ذلك أنه يجوز للإنسان أن يطلب من المخلوق أن يهدي قلبه، ويزيل كربته، ويشفي سقمه، ويغني فقره، ويرزقه الذرية، ويفتح له أبوب العمل، ويوفقه في تجارته ودراسته، ويغفر ذنبه، ويقبل توبته، ويؤمّنه في قبره ويوم بعثه ونشره، وغير ذلك مما يُصنع عند بعض الأضرحة والقبور والمزارات، وكما هي حال بعض المريدين مع شيوخهم، وكما هو مدوّن ومعلن عند قبورية المتصوفة.
وهذا المدد في زعمهم إنما يحصل حين يتوجّه طالب المدد بقلبه وكلّيته إلى الشخص الذي يرى فيه الصلاح، ويستحضره في فكره، فيقابل ذلك فيوضات من روح المدعو على روح طالب المدد؛ فيناله من الخير والسعادة بحسب تعلّقه بهذا المخلوق الذي يطلب المدد منه.
وهذه صورة طلب المدد التي ذكرت الفتوى أنه لا مانع منها شرعا، وعلّلت الجواز بثلاثة أمور:
أحدها: أن هذا الطلب محمول على السببية لا على التأثير.
وثانيها: أن الأصل حمل الأفعال التي تصدر عن المسلم على الأوجه التي لا تتعارض مع أصل التوحيد.
وثالثها: اعتبار النية، والذي عبّرته عن الفتوى بقولها: ( حيث يجد الزائر قلبه) .
ثانيا: بعد معرفة صورة طلب المدد فهو في الحقيقة دعاء للمخلوق، وطلب للعون والغوث منه.
وهذه المسألة فيها تفصيل فإن الطلب من المخلوق الحيّ الحاضر فيما يقدر عليه لا حرج فيه شرعا، ولا خلاف بين أهل العلم في جوازه، كما قال تعالى في قصة موسى عليه السلام: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص: 15]
وأما إذا كان الطلب من غائب أو ميّت أو فيما لايقدر عليه إلا الله فممنوع شرعا؛ لأن الطلب على هذا النحو تنزيل للمخلوق منزلة الخالق جلا وعلا؛ إذ لازم الطلب حينئذ إعطاء المخلوق كمال الحياة والقدرة والإرادة والسمع والبصر والغنى والعلم المحيط بكل شيء، وهذا ليس إلا لله وحده لا شريك، وقد قال تعالى في وصف الناس جميعا : {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15] ، كما أن الاستمداد من المخلوق اعتماد عليه، وهذا شرك بالله تعالى؛ ذلك أن الاعتماد هو التوكل ، والتوكل على الله عبادة أمر الله بها، فصرفها لغيره شرك أكبر مخرج من ملّة الإسلام، قال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23] وقال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس: 84] وقال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} [الفرقان: 58].
فمن طلب المدد من المخلوق، واستغاث به فيما لايقدر عليه إلا الله، أو دعا غائبا أو ميتا فقد أشرك بالله تعالى، كما قال سبحانه: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62]
ثالثا: أن العلل التي علّلت بها الفتوى ليست إلا مغالطات ساقطة، وتزويق للباطل ليروج على الجهلة، وضعيفي الإدراك. وإليك البيان المختصر، وإلا فجوابها المفصّل مذكور في كتب أهل العلم الذين تصدّوا لهذا الباطل، وفنّدوا شبهات أربابه.
1ـ قول الفتوى: (إن هذا الطلب محمول على السببية لا على التأثير) وعبّر عنه بعضهم بالتأثير المعنوي، أو المدد المعنوي، والمقصود منه أن طالب المدد لايطلب ذلك لكونه يعتقد في المخلوق أن له تصرفا في الكون، ولكن يدعوه ويطلب منه المدد لأن له جاها عند الله تعالى، فإذا دعاه وطلب منه المدد فهو في الحقيقة إنما يدعو الله.
وهذا باطل من وجوه:
الوجه الأول: أن الداعي في طلبه المدد متوجه إلى المخلوق وليس إلى الله عز وجل، فكيف يكون طالبا من الله وليس من المخلوق؟! اللهم إلا على طريقة أهل الحلول والاتحاد، الذين يزعمون أن الرب هو العبد، وأن العبد هو الرب، وأن المخلوق عين الخالق، والخالق عين المخلوق.
الوجه الثاني: فإن قيل طلب المدد من المخلوق جاء على جهة المجاز العقلي، بمعنى أن طالب المدد أسنده إلى المخلوق مجازا وليس حقيقة، ووقع إسناده إليه باعتباره سببا فقط، والذي دعا إلى صرف الكلام عن حقيقته كون الطالب مسلما؛ فيمتنع عقلا أن يكون مسلما ويطلب المدد من المخلوق.
فالجواب: أن هذا الكلام ساقط بدلالة أن الفقهاء من كل مذهب عقدوا أبوابا تتعلق بالرّدة عن الإسلام، وذكروا فيها أنواعا مما تقع به الرّدة من الأقوال والأعمال والاعتقادات، ولم يجعلوها من باب المجاز العقلي الذي يمنع الحكم عليه بالكفر بعد الإسلام، وإقامةَ حدّ الرّدة عليه، على اعتبار أن إسلامه يوجب صرف هذه الأشياء إلى مجازاتها.
الوجه الثالث: أن هذا التأويل الذي ذكرته الفتوى لا يتفق مع ما هو مصرح به في كتب الصوفية من تأثير الأقطاب والأغواث والأبدال ونحوهم من ألقاب مشايخهم المعروفة، والتي يزعمون فيها أنهم يدبّرون العالم، ويتصرفون في الكون، ويضرون وينفعون بمجرد مشيئتهم وإرادتهم، وأنهم يدخلون الجنة من يشاؤون، ويخرجون من النار كذلك، ويعلمون الغيب، ولاشك أن هذا شرك في ربوبية الله، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
الوجه الرابع: أن هذا التأويل في طلب المدد ممتنع بدلالة اقترانه كثيرا بأعمال شركية كالذبح والنذر للمخلوق حيّا أو ميتا، وهو أمر مستفيض عن كثير من طالبي المدد من المخلوقين.
الوجه الخامس: لو سلمنا أنه قال ذلك اعتقادا للسببية وليس للتأثير فما هذه السببية؟
المصرّح به في أقوال كثير ممن تسير دار الإفتاء على منوالهم أن السببية هي ما يسمّونه توسّلا، ويحرفون الكلم من بعد مواضعه من أجل أن يستدلوا على هذا الباطل، مع أنه في الحقيقة هو الشفاعة الشركية التي كانت عليها الجاهلية.
وحقيقة الأمر أن الذين يطلبون المدد من المخلوقين يزعمون أن لهم جاها عند الله تعالى، وأنهم حين يستغيثون بهم، ويطلبون منهم المدد، ليس لكونهم مَنْ يجلب النفع أو يدفع الضر، ولكن يطلبون منهم ذلك لكونهم واسطة بينهم وبين الله لما لهم من المكانة والجاه عند الله، فهم يرفعون حاجاتهم إلى الله، ويشفعون عنده ليقبل أعمالهم، ويعفو عن سيئاتهم، ويشفي مريضهم، ويردّ غائبهم، ويكشف كرباتهم... إلى آخر ما يرجونه ويؤمّلونه.
وهذه هي الشفاعة التي كان يزعمهما المشركون، وأوجبت لهم الخلود في النار، وهي أصل الشرك بالله تعالى، كما قال تعالى في ذكره حالَ المشركين:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [يونس: 18] وقال : {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ } [الزمر: 3]
فدلّت الآيتان على نفي الواسطة بين الله وبين خلقه في دعائه وعبادته، وأن من جعل بينه وبين الله واسطة في ذلك فهو مشرك بالله؛ ولهذا نزّه جلّ وعلا نفسة في الآية الأولى عن شرك المشركين، وقضى في الآية الثانية بأن من فعل ذلك فهو كاذب كفّار، وهذا صريح في كفره.
وبيّن جل وعلا في موضع آخر أن من جعل بينه وبين الله واسطة وشفعاء فقد جعل مع الله آلهة يعبدها من دون الله، كما قال سبحانه: { وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [يس: 22 - 24]
ومما يؤيد هذا أن الله تعالى أمر عباده بدعائه، ومن طلب المدد من غير الله لم يدع الله بل دعا غيره، وأعرض عن دعاء ربّه ومولاه، وقد توعّد سبحانه من فعل ذلك بقوله: { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [غافر: 60]، وذكر سبحانه أنه لا أحد أضل منه في قوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) } [الأحقاف: 5]
وبيّن جل وعلا أن الذي يُطلب منه المدد هو الله وحده لا شريك له؛ لأنه سبحانه هو المتفرّد بالخلق والأمر، فمن قال إن المخلوق يطلب منه المدد فقد زعم أنه شريك لله في الخلق والأمر، وهذا ما دلّ عليه قوله تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 54، 55]
وأبطل الله تعالى طلب المدد من المخلوقين بسلبه عنهم صفات الربّ الذي يستحق أن يعبد، كما قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 56، 57] وقال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ: 22] وقال: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر: 38] وقال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف: 4].
كما وصف سبحانه جميع المعبودات من دونه بالعجز، سواء كانوا من الأنبياء أو الصدّيقين أو الشهداء أو الصالحين، أو من هم دون هؤلاء، فكيف يطلب منها المدد؟! كما في قوله:{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 13، 14]، وقوله: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج: 73] وقال: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} [الأعراف: 197] وقال : {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [غافر: 20] وقال تعالى لأشرف خلقه، وسيّد ولد آدم محمد صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } [القصص: 56] والآيات في هذا كثيرة جدا.
والعجب كل العجب أن ترى من يردّ هذه الآيات الواضحات الدالة على تحريم دعاء المخلوقين وطلب المدد منهم، وأن ذلك هو الشرك عينه، بآية يحرّف دلالتها، وهي قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 35] فيزعم أن المراد بالوسيلة اتخاذ الشفعاء عند الله، ولا شك أن هذا تفسير باطل؛ لأنه خلاف ما هو معروف عن الصحابة والتابعين وأتباعهم وأئمة التفسير، فإنهم متفقون على أن المراد بالوسيلة: القربة، أي التقرّب إلى الله بطاعته. ثم إن هذا المعنى المعروف عند السلف هو الذي يتفق مع الآيات السابقة الدالة على تحريم اتخاذ الوسائط والشفعاء، وإلا لكان ثمة تناقض بين هذه الآيات ينزّه عنه القرآن العظيم.
الوجه السادس: أن الله عز وجل أثبت أن المدد من عنده فكيف يطلب من غيره؟ قال تعالى: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء: 20].
فمن طلبه من غير الله فقد اعتدى على الله في ملكه، وهو كما قال الله في شأن الشفاعة: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] وقال: { أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزمر: 43، 44] فالشفاعة ملكه سبحانه فلا تطلب إلا منه، فيقول القائل مثلا : اللهم شفّع فيّ نبيك صلى الله عليه وسلم، وأو شفّع فيّ ملائكتك.
الوجه السابع: لو كان المدد يطلب من المخلوق لطلبه الصحابة رضوان الله عليهم من
رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قبره بين أظهرهم، ولو طلبوه منه لتوافرت الهمم على نقله، فلما لم يكن ذلك منهم عُلم أن هذا الطلب غير مشروع ولو كان على جهة السببية، بل هو منهي عنه بدلالة صريح القرآن الكريم، كما سبق بيانه.
وما يذكره بعض من تعلّق قلبه بالمخلوقين دون الله من أحاديث يستدل بها على باطله بطلب المدد من المخلوقين، فهي إما ضعيفة لا تصح، وإما صحيحة ولكن ليس فيها دلالة على المقصود.
الوجه الثامن: لو سلمنا أن طالب المدد لا يقصد منه دعاء المخلوق فإن الأصول الشرعية تمنع مثل هذه الألفاظ، كما في النهي عن قول ماشاء الله وشئت، ولولا الله فلان، ونحو ذلك، فكيف وقد جاء النهي الصريح عن دعاء غير الله، وطلبُ المدد من المخلوق من ذلك؟!
2ـ وما ذكرته الفتوى من (أنّ الأصل حمل الأفعال التي تصدر عن المسلم على الأوجه التي لا تتعارض مع أصل التوحيد) كلام لا إشكال فيه، ولا أظن أحدا من أهل العلم يخالف في هذا، ولكن هذا لا ينطبق على هذه المسألة؛ لأن هذا الفعل ( وهو طلب المدد من المخلوق) يعارض أصل التوحيد، وليس له محمل غير ذلك، كما سبق بيانه.
3ـ وما ذكرته الفتوى من اعتبار النيّة في هذا فقول باطل؛ لأن معناه أن من نوى بعمله الشركي توحيد الله كان عملا صالحا، ومن نوى به الإشراك كان مشركا، ويكفي في ردّه قوله تعالى: { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا } [الكهف: 103 - 106]
4ـ وبناء على ما سبق يتبيّن بطلان قول دار الإفتاء: ( لا مانع شرعا من طلب المسلم المدد من الأنبياء والأولياء والصالحين، ولا فرق في ذلك بين كونهم أحياء أو منتقلين)، بل الأدلة الشرعية القطعية دالة على المنع من طلب المدد من المخلوقين، فكيف تُصادر هذه الأدلة الصريحة بشبهات قائمة على أدلة ضعيفة، أو أدلّة منزّلة في غير موضعها؟ّ!
وقد بيّن بطلان ما زعمته دار الإفتاء في هذه الفتوى جمع من علماء الأزهر ومفتي الديار المصرية سابقا، كما تجد ذلك في كتاب ( فتاوى علماء الأزهر الشريف حول الأضرحة والقبور والموالد والنذور).
5ـ وما جاء في آخر الفتوى (فالعبرة في التمسح بالأضرحة أو تقبيلها) فيرجع إليه في مقال لي بعنوان (مناقشة الدكتور حاتم العوني في مسألة التمسح بقبر النبي صلى الله عليه وسلم وتقبيله( على الرابط (ttp://aalsaid.com/books_show.php?show=174).
تنبيه: أتبعت دار الإفتاء المصرية هذه الفتوى بفتوى أخرى قالت فيها: ( دلت النصوص الشرعية على أن الصلاة في المساجد التي بها أضرحة جائزة، شأنها في ذلك شأن سائر الصلوات، والقول بتحريمها قول باطل، لا يلتفت إليه، ولايعوّل عليه).
وهذه مغالطة أخرى، وتسفيه لأهل العلم. وأحيل القارئ الكريم على مقال لي سابق للجواب عن هذه المسألة رددت فيه على عضو هيئة كبار علماء مصر الدكتور أحمد معبد بعنوان ( لا يصح الاستدلال بمسجد المدينة على صحة الصلاة في مسجد فيه قبر) على الرابط (http://aalsaid.com/books_show.php?show=176
هذا ما تيسر ذكره على وجه الاختصار، فأسأل الله العظيم ربّ العرش العظيم أن يجعله نافعا لي ولعباده، وأن يوفقنا جميعا لهداه، ويتوفانا على الإسلام والسنة، وأن يصلح أحوال المسلمين، إنه على كل شيء قدير، والحمد لله رب العالمين.
أما بعد فقد صدرت فتوى عن دار الإفتاء المصرية منشورة على معرّفها ، ونصّها ( لا مانع شرعا من طلب المسلمِ المددَ من الأنبياء والأولياء والصالحين، ولا فرق في ذلك بين كونهم أحياء أو منتقلين؛ لأنه محمول على السببية لا على التأثير، كما أن الأصل في الأفعال التي تصدر من المسلم حملها على الأوجه التي لا تتعارض مع أصل التوحيد، فالعبرة في التمسح بالأضرحة أو تقبيلها هي حيث يجد الزائر قلبه، ولا يجوز المبادرة برميه بالكفر أو الشرك).
وإني لأعجب كل العجب أن تصدر هذه الفتوى من جهة يفترض فيها أن تدعو الناس إلى الإقبال على الله، والالتجاء إليه، ودعائه دون واسطةٍ، لا أن تزيد الناس بعدًا عن الله، وتحرّضَهم على التعلق بالأوهام والخرافات، وتأخذَ بأيديهم إلى هتك حرمات الشرع، والوقوعِ في الذنب الأكبر، فأسأل الله جل وعلا أن يعيدهم إلى الحق، ويلهمهم الرشد، ويعيذهم من شرور أنفسهم، إنه سبحانه وتعالى سميع مجيب، على كل شيء قدير.
وأما هذه الفتوى فلا شك في بطلانها، وأنها دعوة جاهلية، وضلالة عمياء، وردّ على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم.
وسأذكر بطلان هذه الفتوى في الآتي:
أولا ـ طلب المدد من المخلوق الميت أو الحي هو دعاء الشخص بقوله: مدد يا فلان لحي أو ميت، وقد يكون الحي حاضرا أو غائبا، وقد يكون الشيء المطلوب داخلا في قدرة المستمَدّ منه وقد لا يكون، والفتوى أطلقت جواز طلب المدد، ومعنى ذلك أنه يجوز للإنسان أن يطلب من المخلوق أن يهدي قلبه، ويزيل كربته، ويشفي سقمه، ويغني فقره، ويرزقه الذرية، ويفتح له أبوب العمل، ويوفقه في تجارته ودراسته، ويغفر ذنبه، ويقبل توبته، ويؤمّنه في قبره ويوم بعثه ونشره، وغير ذلك مما يُصنع عند بعض الأضرحة والقبور والمزارات، وكما هي حال بعض المريدين مع شيوخهم، وكما هو مدوّن ومعلن عند قبورية المتصوفة.
وهذا المدد في زعمهم إنما يحصل حين يتوجّه طالب المدد بقلبه وكلّيته إلى الشخص الذي يرى فيه الصلاح، ويستحضره في فكره، فيقابل ذلك فيوضات من روح المدعو على روح طالب المدد؛ فيناله من الخير والسعادة بحسب تعلّقه بهذا المخلوق الذي يطلب المدد منه.
وهذه صورة طلب المدد التي ذكرت الفتوى أنه لا مانع منها شرعا، وعلّلت الجواز بثلاثة أمور:
أحدها: أن هذا الطلب محمول على السببية لا على التأثير.
وثانيها: أن الأصل حمل الأفعال التي تصدر عن المسلم على الأوجه التي لا تتعارض مع أصل التوحيد.
وثالثها: اعتبار النية، والذي عبّرته عن الفتوى بقولها: ( حيث يجد الزائر قلبه) .
ثانيا: بعد معرفة صورة طلب المدد فهو في الحقيقة دعاء للمخلوق، وطلب للعون والغوث منه.
وهذه المسألة فيها تفصيل فإن الطلب من المخلوق الحيّ الحاضر فيما يقدر عليه لا حرج فيه شرعا، ولا خلاف بين أهل العلم في جوازه، كما قال تعالى في قصة موسى عليه السلام: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص: 15]
وأما إذا كان الطلب من غائب أو ميّت أو فيما لايقدر عليه إلا الله فممنوع شرعا؛ لأن الطلب على هذا النحو تنزيل للمخلوق منزلة الخالق جلا وعلا؛ إذ لازم الطلب حينئذ إعطاء المخلوق كمال الحياة والقدرة والإرادة والسمع والبصر والغنى والعلم المحيط بكل شيء، وهذا ليس إلا لله وحده لا شريك، وقد قال تعالى في وصف الناس جميعا : {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15] ، كما أن الاستمداد من المخلوق اعتماد عليه، وهذا شرك بالله تعالى؛ ذلك أن الاعتماد هو التوكل ، والتوكل على الله عبادة أمر الله بها، فصرفها لغيره شرك أكبر مخرج من ملّة الإسلام، قال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23] وقال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس: 84] وقال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} [الفرقان: 58].
فمن طلب المدد من المخلوق، واستغاث به فيما لايقدر عليه إلا الله، أو دعا غائبا أو ميتا فقد أشرك بالله تعالى، كما قال سبحانه: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62]
ثالثا: أن العلل التي علّلت بها الفتوى ليست إلا مغالطات ساقطة، وتزويق للباطل ليروج على الجهلة، وضعيفي الإدراك. وإليك البيان المختصر، وإلا فجوابها المفصّل مذكور في كتب أهل العلم الذين تصدّوا لهذا الباطل، وفنّدوا شبهات أربابه.
1ـ قول الفتوى: (إن هذا الطلب محمول على السببية لا على التأثير) وعبّر عنه بعضهم بالتأثير المعنوي، أو المدد المعنوي، والمقصود منه أن طالب المدد لايطلب ذلك لكونه يعتقد في المخلوق أن له تصرفا في الكون، ولكن يدعوه ويطلب منه المدد لأن له جاها عند الله تعالى، فإذا دعاه وطلب منه المدد فهو في الحقيقة إنما يدعو الله.
وهذا باطل من وجوه:
الوجه الأول: أن الداعي في طلبه المدد متوجه إلى المخلوق وليس إلى الله عز وجل، فكيف يكون طالبا من الله وليس من المخلوق؟! اللهم إلا على طريقة أهل الحلول والاتحاد، الذين يزعمون أن الرب هو العبد، وأن العبد هو الرب، وأن المخلوق عين الخالق، والخالق عين المخلوق.
الوجه الثاني: فإن قيل طلب المدد من المخلوق جاء على جهة المجاز العقلي، بمعنى أن طالب المدد أسنده إلى المخلوق مجازا وليس حقيقة، ووقع إسناده إليه باعتباره سببا فقط، والذي دعا إلى صرف الكلام عن حقيقته كون الطالب مسلما؛ فيمتنع عقلا أن يكون مسلما ويطلب المدد من المخلوق.
فالجواب: أن هذا الكلام ساقط بدلالة أن الفقهاء من كل مذهب عقدوا أبوابا تتعلق بالرّدة عن الإسلام، وذكروا فيها أنواعا مما تقع به الرّدة من الأقوال والأعمال والاعتقادات، ولم يجعلوها من باب المجاز العقلي الذي يمنع الحكم عليه بالكفر بعد الإسلام، وإقامةَ حدّ الرّدة عليه، على اعتبار أن إسلامه يوجب صرف هذه الأشياء إلى مجازاتها.
الوجه الثالث: أن هذا التأويل الذي ذكرته الفتوى لا يتفق مع ما هو مصرح به في كتب الصوفية من تأثير الأقطاب والأغواث والأبدال ونحوهم من ألقاب مشايخهم المعروفة، والتي يزعمون فيها أنهم يدبّرون العالم، ويتصرفون في الكون، ويضرون وينفعون بمجرد مشيئتهم وإرادتهم، وأنهم يدخلون الجنة من يشاؤون، ويخرجون من النار كذلك، ويعلمون الغيب، ولاشك أن هذا شرك في ربوبية الله، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
الوجه الرابع: أن هذا التأويل في طلب المدد ممتنع بدلالة اقترانه كثيرا بأعمال شركية كالذبح والنذر للمخلوق حيّا أو ميتا، وهو أمر مستفيض عن كثير من طالبي المدد من المخلوقين.
الوجه الخامس: لو سلمنا أنه قال ذلك اعتقادا للسببية وليس للتأثير فما هذه السببية؟
المصرّح به في أقوال كثير ممن تسير دار الإفتاء على منوالهم أن السببية هي ما يسمّونه توسّلا، ويحرفون الكلم من بعد مواضعه من أجل أن يستدلوا على هذا الباطل، مع أنه في الحقيقة هو الشفاعة الشركية التي كانت عليها الجاهلية.
وحقيقة الأمر أن الذين يطلبون المدد من المخلوقين يزعمون أن لهم جاها عند الله تعالى، وأنهم حين يستغيثون بهم، ويطلبون منهم المدد، ليس لكونهم مَنْ يجلب النفع أو يدفع الضر، ولكن يطلبون منهم ذلك لكونهم واسطة بينهم وبين الله لما لهم من المكانة والجاه عند الله، فهم يرفعون حاجاتهم إلى الله، ويشفعون عنده ليقبل أعمالهم، ويعفو عن سيئاتهم، ويشفي مريضهم، ويردّ غائبهم، ويكشف كرباتهم... إلى آخر ما يرجونه ويؤمّلونه.
وهذه هي الشفاعة التي كان يزعمهما المشركون، وأوجبت لهم الخلود في النار، وهي أصل الشرك بالله تعالى، كما قال تعالى في ذكره حالَ المشركين:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [يونس: 18] وقال : {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ } [الزمر: 3]
فدلّت الآيتان على نفي الواسطة بين الله وبين خلقه في دعائه وعبادته، وأن من جعل بينه وبين الله واسطة في ذلك فهو مشرك بالله؛ ولهذا نزّه جلّ وعلا نفسة في الآية الأولى عن شرك المشركين، وقضى في الآية الثانية بأن من فعل ذلك فهو كاذب كفّار، وهذا صريح في كفره.
وبيّن جل وعلا في موضع آخر أن من جعل بينه وبين الله واسطة وشفعاء فقد جعل مع الله آلهة يعبدها من دون الله، كما قال سبحانه: { وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [يس: 22 - 24]
ومما يؤيد هذا أن الله تعالى أمر عباده بدعائه، ومن طلب المدد من غير الله لم يدع الله بل دعا غيره، وأعرض عن دعاء ربّه ومولاه، وقد توعّد سبحانه من فعل ذلك بقوله: { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [غافر: 60]، وذكر سبحانه أنه لا أحد أضل منه في قوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) } [الأحقاف: 5]
وبيّن جل وعلا أن الذي يُطلب منه المدد هو الله وحده لا شريك له؛ لأنه سبحانه هو المتفرّد بالخلق والأمر، فمن قال إن المخلوق يطلب منه المدد فقد زعم أنه شريك لله في الخلق والأمر، وهذا ما دلّ عليه قوله تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 54، 55]
وأبطل الله تعالى طلب المدد من المخلوقين بسلبه عنهم صفات الربّ الذي يستحق أن يعبد، كما قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 56، 57] وقال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ: 22] وقال: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر: 38] وقال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف: 4].
كما وصف سبحانه جميع المعبودات من دونه بالعجز، سواء كانوا من الأنبياء أو الصدّيقين أو الشهداء أو الصالحين، أو من هم دون هؤلاء، فكيف يطلب منها المدد؟! كما في قوله:{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 13، 14]، وقوله: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج: 73] وقال: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} [الأعراف: 197] وقال : {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [غافر: 20] وقال تعالى لأشرف خلقه، وسيّد ولد آدم محمد صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } [القصص: 56] والآيات في هذا كثيرة جدا.
والعجب كل العجب أن ترى من يردّ هذه الآيات الواضحات الدالة على تحريم دعاء المخلوقين وطلب المدد منهم، وأن ذلك هو الشرك عينه، بآية يحرّف دلالتها، وهي قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 35] فيزعم أن المراد بالوسيلة اتخاذ الشفعاء عند الله، ولا شك أن هذا تفسير باطل؛ لأنه خلاف ما هو معروف عن الصحابة والتابعين وأتباعهم وأئمة التفسير، فإنهم متفقون على أن المراد بالوسيلة: القربة، أي التقرّب إلى الله بطاعته. ثم إن هذا المعنى المعروف عند السلف هو الذي يتفق مع الآيات السابقة الدالة على تحريم اتخاذ الوسائط والشفعاء، وإلا لكان ثمة تناقض بين هذه الآيات ينزّه عنه القرآن العظيم.
الوجه السادس: أن الله عز وجل أثبت أن المدد من عنده فكيف يطلب من غيره؟ قال تعالى: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء: 20].
فمن طلبه من غير الله فقد اعتدى على الله في ملكه، وهو كما قال الله في شأن الشفاعة: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] وقال: { أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزمر: 43، 44] فالشفاعة ملكه سبحانه فلا تطلب إلا منه، فيقول القائل مثلا : اللهم شفّع فيّ نبيك صلى الله عليه وسلم، وأو شفّع فيّ ملائكتك.
الوجه السابع: لو كان المدد يطلب من المخلوق لطلبه الصحابة رضوان الله عليهم من
رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قبره بين أظهرهم، ولو طلبوه منه لتوافرت الهمم على نقله، فلما لم يكن ذلك منهم عُلم أن هذا الطلب غير مشروع ولو كان على جهة السببية، بل هو منهي عنه بدلالة صريح القرآن الكريم، كما سبق بيانه.
وما يذكره بعض من تعلّق قلبه بالمخلوقين دون الله من أحاديث يستدل بها على باطله بطلب المدد من المخلوقين، فهي إما ضعيفة لا تصح، وإما صحيحة ولكن ليس فيها دلالة على المقصود.
الوجه الثامن: لو سلمنا أن طالب المدد لا يقصد منه دعاء المخلوق فإن الأصول الشرعية تمنع مثل هذه الألفاظ، كما في النهي عن قول ماشاء الله وشئت، ولولا الله فلان، ونحو ذلك، فكيف وقد جاء النهي الصريح عن دعاء غير الله، وطلبُ المدد من المخلوق من ذلك؟!
2ـ وما ذكرته الفتوى من (أنّ الأصل حمل الأفعال التي تصدر عن المسلم على الأوجه التي لا تتعارض مع أصل التوحيد) كلام لا إشكال فيه، ولا أظن أحدا من أهل العلم يخالف في هذا، ولكن هذا لا ينطبق على هذه المسألة؛ لأن هذا الفعل ( وهو طلب المدد من المخلوق) يعارض أصل التوحيد، وليس له محمل غير ذلك، كما سبق بيانه.
3ـ وما ذكرته الفتوى من اعتبار النيّة في هذا فقول باطل؛ لأن معناه أن من نوى بعمله الشركي توحيد الله كان عملا صالحا، ومن نوى به الإشراك كان مشركا، ويكفي في ردّه قوله تعالى: { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا } [الكهف: 103 - 106]
4ـ وبناء على ما سبق يتبيّن بطلان قول دار الإفتاء: ( لا مانع شرعا من طلب المسلم المدد من الأنبياء والأولياء والصالحين، ولا فرق في ذلك بين كونهم أحياء أو منتقلين)، بل الأدلة الشرعية القطعية دالة على المنع من طلب المدد من المخلوقين، فكيف تُصادر هذه الأدلة الصريحة بشبهات قائمة على أدلة ضعيفة، أو أدلّة منزّلة في غير موضعها؟ّ!
وقد بيّن بطلان ما زعمته دار الإفتاء في هذه الفتوى جمع من علماء الأزهر ومفتي الديار المصرية سابقا، كما تجد ذلك في كتاب ( فتاوى علماء الأزهر الشريف حول الأضرحة والقبور والموالد والنذور).
5ـ وما جاء في آخر الفتوى (فالعبرة في التمسح بالأضرحة أو تقبيلها) فيرجع إليه في مقال لي بعنوان (مناقشة الدكتور حاتم العوني في مسألة التمسح بقبر النبي صلى الله عليه وسلم وتقبيله( على الرابط (ttp://aalsaid.com/books_show.php?show=174).
تنبيه: أتبعت دار الإفتاء المصرية هذه الفتوى بفتوى أخرى قالت فيها: ( دلت النصوص الشرعية على أن الصلاة في المساجد التي بها أضرحة جائزة، شأنها في ذلك شأن سائر الصلوات، والقول بتحريمها قول باطل، لا يلتفت إليه، ولايعوّل عليه).
وهذه مغالطة أخرى، وتسفيه لأهل العلم. وأحيل القارئ الكريم على مقال لي سابق للجواب عن هذه المسألة رددت فيه على عضو هيئة كبار علماء مصر الدكتور أحمد معبد بعنوان ( لا يصح الاستدلال بمسجد المدينة على صحة الصلاة في مسجد فيه قبر) على الرابط (http://aalsaid.com/books_show.php?show=176
هذا ما تيسر ذكره على وجه الاختصار، فأسأل الله العظيم ربّ العرش العظيم أن يجعله نافعا لي ولعباده، وأن يوفقنا جميعا لهداه، ويتوفانا على الإسلام والسنة، وأن يصلح أحوال المسلمين، إنه على كل شيء قدير، والحمد لله رب العالمين.
كتبه/ عبد العزيز بن محمد السعيد
29/ 12/ 1443هـ
-
الجمعة AM 05:23
2022-07-29 - 3244